سرد محمد حسنين هيكل التفاصيل والملابسات التي اوصلت مبارك الى سدة الحكم قائلا: كان أول ما التقيت بـ"مبارك" لقاء مصادفات عابرة، فقد كنت على موعد مع وزير الحربية وهو وقتها الفريق "محمد أحمد صادق"، وعندما دخلت مكتبه مارا بغرفة ياوره كان بعض القادة في انتظار لقاء "الوزير"، وكان بينهم "مبارك"، وأتذكره جالسا وفي يده حقيبة أوراق لم يتركها من يده، حين قام وسلم وقدَّم نفسه، وبالطبع فإنني صافحته باحترام، قائلا له في عبارة مجاملة مما يرد على أول لقاء: "إن دوره من أهم الأدوار في المرحلة المقبلة، و"البلد كله" ينتظر أداءه".

وكانت المرة الثانية التي قابلت فيها "مبارك" في تلك الفترة أثناء معارك أكتوبر 1973، وكانت هي الأخرى لقاء مصادفات عابر، فقد ذهبت إلى المركز رقم10 (وهو مركز القيادة العامة للمعركة)، وكنت هناك على موعد مع القائد العام الفريق "أحمد إسماعيل"، وكنا في اليوم الخامس للحرب 12أكتوبر، وكان اللواء "مبارك" قائد سلاح الطيران هناك، وأقبل نحوي بخطى حثيثة، وعلى ملامحه اهتمام لافت، يسألني: "كيف عرف الأهرام بتفاصيل المعركة التي جرت فوق قاعدة "المنصورة"، وكان هو موجودا في القاعدة، وقابل طيارا إسرائيليا أسقطت طائرته، وجاء بالطيار الأسير لمقابلة قائد الطيران المصري، ودار بينهما حوار، قال فيه "مبارك" للطيار الأسير: إنه تابع سربه أثناء الاشتباك، ولاحظ أخطاء وقع فيها، وسأله ماذا جرى لكم؟! كنا نتصور الطيارين الإسرائيليين أكفأ، فهل تغيرتم؟!! ورد الطيار الإسرائيلي قائلا: "لم نتغير يا سيدي، ولكن أنتم تغيرتم".
وربما كان علي أن أستغرب أكثر منه من هذا الاتصال المباشر بين قائد الطيران وبين رئيس الجمهورية عن غير طريق القائد العام، لكني وقتها لم أستغرب، فقد تصورتها لهفة الرئيس على الاتصال المباشر بقواده دون مراعاة لتسلسل القيادة!! ومرت على هذه الأحاديث عدة سنوات، وقع فيها ما وقع وضمنه ذلك الصدام العنيف في مايو 1971 بين الرئيس "السادات" وبين ما سُمي وقتها بـ"مراكز القوى".
والذي بعد كل الاحداث التي مرت، أن الرئيس "السادات" سألني فجأة وسط حديثنا الطويل تحت شجرة "الفيكس" العريقة وسط حديقة الاستراحة في القناطر بما ملخصه: "أنه يجد نفسه حائراً بشأن منصب نائب الرئيس في العهد الجديد بعد أكتوبر". ثم أضاف: "بصراحة جيل يوليو لم يعد يصلح، والدور الآن على جيل أكتوبر، ولابد أن يكون منه ومن قادته اختياري لنائب الرئيس الجديد!!"، وأضاف الرئيس "السادات" مرة أخرى دون أن ينتظر رداً: "جيل أكتوبر فيه خمسة من القيادات، أولهم وهو "أحمد إسماعيل" توفي والآن أمامي "الجمسي" وكان مديرا للعمليات أثناء الحرب، وأصبح وزير الدفاع بعد "أحمد إسماعيل" ثم "محمد على فهمي" قائد الدفاع الجوي ثم "حسني مبارك" قائد الطيران، ثم قائد البحرية (هكذا أشار إليه دون اسم)، وهو يقصد الفريق فؤاد ذكرى . وأضاف: "لابد أن يكون اختياري ضمن واحد منهم".

مبارك كان قائدا عسكريا
ورددت عليه بعفوية متسائلا: "ولماذا يحشر نفسه في هذه الدائرة الصغيرة؟ أقصد لماذا يتصور أن جيل أكتوبر هو فقط هؤلاء القادة العسكريون للمعركة؟!!". ورد بطريقته حين يريد إظهار الحسم: "أنت تعرف أن الرئيس في هذا البلد لخمسين سنة قادمة لابد أن يكون عسكريا وإذا كان كذلك، فقادة الحرب لهم أسبقية على غيرهم". وقلت والحوار تتسع دائرته: "إن أكتوبر كانت حرب كل الشعب، ثم إنك قلت لي الآن عن اعتزامك تكليف وزير الداخلية اللواء ممدوح سالم برئاسة الوزارة، وأخشى باختياره أنك تكون قد "بولست" عن البوليس الوزارة، ثم إنك بـ"مبارك" نائبا لك تكون قد "عسكرت" الرئاسة، وربما يصعب على الناس قبول الأمرين معا في نفس الوقت".
ورد قائلا: "أنه مندهش لترددي فى إدراك أهمية أن يكون رئيس مصر القادم عسكريا، ثم سألني: ألست تعرف أن ذلك كان رأي "المعلم" يقصد "جمال عبدالناصر" أيضا؟ وقلت: "إن الظروف ربما تغيرت، وليس لديَّ تحيز ضد رئيس عسكرى، لكنه مع ضابط بوليس في رئاسة الوزارة، وضابط طيار في رئاسة الجمهورية فإن صورة ما بعد الحرب سوف تبدو تركيزا على الضبط والربط لا تبرره الأحوال، وأما فيما يتعلق برأي "جمال عبدالناصر" فإن مسئوليات الحرب، وبالتالي منجزاتها تغيرت كثيرا عندما التحق شباب المؤهلات بجيش المليون على الجبهة".
وشعرت أنه متمسك برأيه، واقترحت عليه بمنطق حجته: ليكن لماذا لم تفكر في "الجمسي" مثلا؟!!ورد بسرعة: لا، "الجمسي" لا يصلح للرئاسة "الجمسي" فلاح وهو ليس من نحتاجه في منصب نائب الرئيس الآن". وأدركت أن لديه مرشحا، وسألته فيمن يفكر، ورد على الفور على السؤال بسؤال كما كان يفعل أحيانا: "ما رأيك في "حسني مبارك"؟!". وقلت: "إن اسمه لم يخطر ببالي، وإنما خطر ببالي مع إصراره على عسكري من جيل أكتوبر، أن يكون نائبه الجديد إما "الجمسي" وزير الدفاع الآن، والذي كان مديرا للعمليات، أو "محمد علي فهمي" قائد الدفاع الجوي، وهو السلاح الذي قام بالدور الأكثر تأثيرا في المعركة بحائط الصواريخ، فإذا أراد غير هؤلاء، فقد يفكر في واحد من قادة الجيوش".ورد: "لا، لا أحد من هؤلاء يصلح "مبارك" أحسن منهم، خصوصا في هذه الظروف!!".

اصبح مبارك نائبا لان السادات
كان مقتنعا بقدراته
وسألته بالتسلسل المنطقي للحوار: أية ظروف بالتحديد؟!!وراح يشرح ويستطرد ويقاطع نفسه، ثم يعود إلى سياق ما يتكلم فيه، ثم يبتعد عنه، وكنت أشعر به كما لو أنه متردد في الإفصاح الكامل عن فكره، وإن كانت بعض العبارات قد لفتت نظري قوله مثلا: "أن هناك قيادات في الجيش لم تفهم بعد سياسته في "عملية السلام" ومقتضياتها". وقوله مثلا: "أن هناك عناصر في الجيش لا تزال مشايعة لـ"مراكز القوى" أو متعاطفة مع "سعد الشاذلي". وقوله مثلا وهو يستدعي تجربة شاه إيران "محمد رضا بهلوي" الذى وصفه بأنه "سياسي عُقر"، وهو في رأيه أوعى سياسي في المنطقة، بحكم تجربة طويلة وراءه استفاد كثيرا منها.
وسألني الرئيس "السادات" هنا: "ألا يلفت نظرك أن الشاه عين زوج شقيقته "فاطمي" الجنرال محمد فاطمي قائدا للطيران؟! عنده حكمة في هذا الاختيار، لأن الطيران يستطيع أن يتدخل بسرعة، وبقوة نيران كثيفة لمواجهة أي تمرد أو عصيان، أو حتى محاولة انقلاب". وسألته: "إذا كانت تلك نصيحة من شاه إيران؟!". وارتفع صوته محتجا يسأل: "هل هو في حاجة إلى نصيحة يقولها له "الشاه"، أليس يكفينا أن نرى ما نرى، ونفهم منه ما نفهم، ثم سألني مباشرة كمن يريد إفحام محاوره: "ماذا جرى لك إيه يا محمد؟!!"، ولفت نظري قول الرئيس "السادات":"إن "مبارك" منوفي وضحك مقاطعا نفسه: "مثلي"، ثم عاد إلى استكمال عبارته، وله في الطيران مجموعات بين الضباط مسيطرة على السلاح، ثم يضيف: و"التأمين" قضية مهمة في المرحلة القادمة بكل ما فيها من تحولات قد لا يستوعبها كل الناس بالسرعة الواجبة".
وسألته:"لكن "الشاه" عين زوج شقيقته قائدا للطيران، وليس نائبا لرئيس الدولة!! و"مبارك" فيما أتصور لا خبرة له بشئون الحكم في سياسة كل يوم، خصوصا ما يتعلق منها بمطالب الناس ومشكلاتهم، وسألته "ثم لماذا لا تتيح له فرصة التجربة وزيرا لإحدى وزارات الإنتاج أو الخدمات، حتى يتفهم الرجل أحوال الإدارة المدنية، وحتى يحتك ولو من باب الإنصاف له بمطالب الناس وحاجاتهم" وكان رده: ـ "لا، لو فعلت ما تقترحه، فسوف أحرقه.. الإنجاز السريع في الوزارات التنفيذية مسألة في منتهى الصعوبة". ومرت في ذهني بارقة، فقد تذكرت ذلك التقرير الذي كتبه السيد "سامي شرف" بخط يده عن مكالمة تليفونية مع نائبه الرئيس "السادات" الذي كان في الخرطوم سنة 1970، وضمن المكالمة ما يشيـر التقرير عن محاولة اغتيال الإمام "الهادي" بسلة مانجو في بطنها لغم!!

اختيار "مبارك" لمنصب نائب
الرئيس لم يكن اختيارا "بسيطا"
وقلت للرئيس "السادات" وأنا لا أعرف بالضبط ما أفضي به الآن، وما أحجب مما قرأت في مذكرة "سامى شرف": "ولكن "مبارك" دارت حوله إشاعات في قضية اغتيال الإمام "الهادي"، وسوف تعود القضية كلها إلى التداول في "الخرطوم" فور إعلان تعيينه نائبا للرئيس. ورد "السادات" على طريقته حين يريد "الإقناع" بما يتشكك فيه سامعه بأن: "مشكلتك يا "محمد" أنك تصدق الإشاعات، ويظهر أن فترة الشهور التى انقطعت فيها عني (أي منذ تركت "الأهرام") في فبراير 1974 قد "أبعدتك" عن مصادر الأخبار الصحيحة". وقلت بأدب: "إن الأخبار الصحيحة متاحة في كل مكان لمن يبحث عنها"، وتصور الرئيس "السادات" أنه بملاحظته ضايقني، وإذا بابتسامة عريضة تملأ شفتيه مرة واحدة كما يفعل حين يريد إظهار سماحته، فأضاف بنبرته الودود المشهورة عنه: "المسألة أنك بغريزة الصحفي يشدك أي خبر مثير!!".
وقلت: "أي خبر مثير؟! أنت بنفسك رويت القصة كلها على التليفون، و"سامي شرف" سجلها بخطه لعرضها على "جمال عبدالناصر"، وما كتبه "سامي شرف" عندي في أوراقي التي تفضلت وأعطيتها بنفسك لي!!"، وبدا لي أنه فوجيء، وأول ما قاله في التعبير عن مفاجأته "آه" قالها خطفا، بمعنى الدهشة!!، وكان سؤاله التالي بسرعة مستفسرا "وعندك الورقة التي كتبها "سامي"، ثم استطرد بأنه يريدها.. يريد أن يراها!!، وقلت إن الورقة موجودة ولكنها ليست "هنا"، وذكَّرته بأنني استأذنته في إخراج بعض أوراقي الخاصة بعيدا عن مصر، خوفا عليها من تربص صراعات السلطة التي لاحت نُذُرها بعد رحيل "جمال عبدالناصر".
وقلت "إننى سوف أجيء له بها في أول سفرة إلى أوروبا"، لكني ذكَّرته بضرورة أن يتصور أن الأمريكان سجَّلوا مكالمته الأصلية مع "سامي"، وكذلك السوفييت، وربما أيضا إسرائيل، وإذن فهناك من يعرفون القصة، وربما يحتفظون بتسجيل كامل لحديثه مع "سامي"، بصرف النظر عن أية "ورقة مكتوبة"!!. وأخذتنا بعد ذلك تطورات الحوادث، فلا الرئيس "السادات" عاد إلى طلب الورقة، ولا أنا عُدت بها معي من سفر!!. لكن المسألة الأهم بعد هذا الحديث أنني خرجت من استراحة "القناطر" يومها مدركا عدة حقائق:
1ـ أن اختيار "مبارك" لمنصب نائب الرئيس لم يكن اختيارا "بسيطا" بل مركبا حكمته اعتبارات أخرى، فهو لم يكن اختيارا من بين الرجال الذين ظهروا في حرب أكتوبر، على أساس دور متفوق على غيره فيها، وإنما كان اختيار "مبارك" شيئا آخر إلى جانب أكتوبر يقدمه ويزكيه.
2- أن الرئيس "السادات" اختار رجلا يعرفه من قبل، وقد اختبر قدرته على الفعل، واستوثق منه.
3- أن اختياره للرجل وقع وفي ذهنه قضية حيوية بالنسبة له ولسياساته هي قضية تأمين النظام في ظروف تحولات حساسة!!
4- أن الرجل من قبل اختياره أظهر استعدادا عنده يجعله مهيأ للمضي "وراء حدود الواجب" على حد التعبير المشهور في العسكرية البريطانية "Going beyond the call of duty"، أي المضي بتنفيذ الواجب حتى بالزيادة عليه بما ليس منه إذا قضت الأسباب!! (نقلا عن الشروق).
imagebank - AFP
a